الحياة بمنهج إقـــرأ
إن أول ما نزل من القرآن هو أمره سبحانه وتعالى ( إقرأ)، وبالتفكر في الحكمة من بدء نزول الوحي الكريم بهذا الأمر لوجدنا أن القراءة تعني المعرفة والعلم بما يجهله الإنسان عن نفسه ومجتمعه وبيئته وأرضه وسماءه والكون بأسره، ولكن هذه المعرفة العلمية ليست هدفاً في ذاتها ولكنها وسيلة ناجعة للوصول إلى الحقيقة بالإيمان والإعتقاد (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر28.
إذاً فإقرأ أمر مباشر بالقراءة ولكنه له العديد من الدلالات الرمزية مما يفسر مدى الإهتمام بجوامع العلوم في كل مناحي الحياة الدينية الدنياوية، فالدينية تعرفنا على الخالق وطرق الوصول إليه، والدنيوية التي تضمن لنا استمرار حركة التطور الإنساني بتوجيه المسملين لقيادة التطور الإنساني كما كانوا إبان عصور الظلام في أوروبا، حتى نتخلص من عصر التبعية الشاملة التي جعلت منا مُستهلكين للثقافة والحضارة قبل الغذاء والدواء وما بينهما من التكنولوجيا مروراً بالفنون والإعلام.
ومن الغريب أن يلفت القرآن الكريم نظرنا لأنفسنا فيقول ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) ٢١ الذاريات، فلا نتحرك رغم أن الأمة كلها تتلوا هذه الأية في صلواتها على مدار العام و تختم القرأن في رمضان لعدة تلاوات ثم نجد أن جُل الأبحاث المُتعلقة بالإنسان خلقاً وسلوكاً تأتي لنا من الغرب.
ولكن سرعان ما يذهب الإستغراب عندما نتذكر قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ٥٣فصلت.
فمن يصوم وهو " غير مؤمن به عقيدة " لعلمه بأن الصيام يهدئ من حركة الأمعاء ويجدد نشاطها ويقلل من الإصابة بقرح الأمعاء، ومن يؤدي حركات الصلاة لتلافي خشونة الركبة والمحافظة على سلامة العمود الفقري " وفق أبحاث أمريكية وفرنسية شخصت الفوائد الصحية للصلاة " قد أخطئ مراد الله ومن يصلي ويصوم وهو مؤمن دون أن يلتزم بمنهج البحث العلمي لاكتشاف الحكم العظيمة وراء هذه الأوامر والتوجيهات الربانية التي مُلئ بها القرأن الكريم.
إن الآمر جلّ وعلا أنزل (إقـــرأ) حجة للناس أو عليهم، ليحضّهم على القراءة والعلم، ولكننا كمسلمين مُطالَبين بالإيمان قبل القراءة وبمعرفة صفات الآمر سبحانه وتعالى، وإلا لما نفع العلم مع الكفر ولما نفع الإيمان مع الجهل، فالمؤمن الجاهل قد يخرجه جهله من إيمانه كما يفعل بعض من يدعون من دون الله حول الأضرحة والمقابر أو بعض ممن غضب الله عليهم أو ممن ضلوا السبيل، لذا أكد الآمر سبحانه على العلم المقرون بالعمل في قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّـهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) محمد 19، ومن المعلوم أن من مقتضيات العلم بلا إله إلا الله أن نزعن بالإيمان لهذا الإله العظيم ونتعرف على أسمائه وصفاته، وأن نحيا وفق منهجه ونعمل بشريعته التي ارتضاها لنا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة 3، وهذا الرضا الإلهي عن الدين يجب أن يصاحبه رضا من العبد، وهذا الرضا ليس ليس قولاً باللسان " رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً فحسب " أو هياماً بالوجدان، بل هو استقباح للمعاصي وبعداً عن الشهوات وامتثالاً للأوامر ورضاً بالقضاء دون جزع، ولعلّ من المفارقات أننا قد نرى في ذات الوقت بعض ممن هم من غير المسلمين لا يقعون في المعاصي والشهوات ترفعاً عنها وإستعلائاً لأنفسهم عن الدنايا، فهو لا يشرب الخمر ليحفظ عقله، ولا يقع في الزنا ليحفظ عرضه ونسبه، وإذا أصيب بمرض أو ابتلاء تجده لا يئن ولا يشتكي بل يظهر من قوة الروح الشيء العجيب، إذا فما الفارق بين المسلم وغير المُسلم ؟
إن الفارق هو (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )١٠٤ النساء، فالمسلم الذي يجاهد نفسه في سبيل الله تحقيقاً لقوله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) 69 العنكبوت، هو الذي يحصل على الهداية الربانية بأن تُفتّح له سبل الخير والرشاد بحيث تقوده من خير لخير، ومن حسن لأحسن، نتيجة لصبره على الطاعة ومثابرته على ممارسة الإيمان وحرمانه لنفسه عن الهوى والشهوات (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ٤٠فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) ٤١ النازعات، هذا الصنف من الناس هو الصنف المرشح لزيادة الهداية واستقبال التقوى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) محمد ١٧، ثم يستمر في توجيههم بإرسال الرسائل الواقية ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)٦ فاطر، لمُساعدة الإنسان على الثبات في الدنيا والآخرة (يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّـهُ مَا يَشَاءُ ) ٢٧إبراهيم، وليس الثبات فقط هو الفائدة الإنسانية الوحيدة المرجوة للإنسان المؤمن من المُجاهدة، ولكنه يحظى بقيمة من أهم القيم الإنسانية وهي الأمن النفسي (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) ٨٢ الأنعام، إذاً فالأمن النفسي والهداية هما ثمرتان من ثمرات الإيمان بالله ومُجاهدة النفس عن الهوى.
وبعد فلولا قيمة " إقـــرأ " لما علمنا عن ديننا، ولما تعرفنا على ربنا الذي أرشدنا إلى أقرب الطرق للوصول إليه (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) 60 غافر، والذي يدرك ضعفنا وما جبلت عليه نفوسنا فيبعث فينا الأمل بقوله ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿٥٣﴾ ثم يترك لنا باب الرجعة مفتوح فينادينا ( وأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴿٥٤﴾ ثم يؤكد سبحانه على أفضلية المنهج والرسالة الخاتمة عن غيرها من الرسالات فيدعونا ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿٥٥﴾ وبلطفه ورحمته يحذرنا فيقول ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴿٥٦﴾ الزمر.
إن " إقــــرأ " منهج للنجاح الإنساني في الدنيا و الآخرة، فالإنسان الذي يقطع كل أشواط المُجاهدة ليتحمل تبعات العيش في سبيل الله بحرمان نفسه من الشهوات والإبتعاد بها عن الأهواء في ظل عالم يموج بفتن كالجبال يكاد يهوي فيها غرقاً في كل لحظة من لحظاتها، الأمر الذي جعل شيخنا الغزالي رحمه الله يقول بأن ( العيش في سبيل الله أصعب بكثير من الموت في سبيله ) ليس تقليلاً من شأن الجهاد وإنما استصعاباً لأمانة الله التي نأت عن حملها الأرض والجبال وحملها الإنسان بظلمه وجهله ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) ٧٢ الأحزاب، إذا فالصعوبة التي ذكرها الغزالي قد أتت من إدراكه لحجم الأمانة وقيمة الرسالة للإنسانية، فالحياة مع الأمانة وبالأمانة أصعب بكثير من الموت في سبيلها، ولكن يتعين على الإنسان في طريقه إلى الله أن يكتسب اللياقة الإيمانية التي يحتاج إليها الإنسان لضمان استمرار الحضارة الإنسانية على الأرض .